كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله: {فرجع موسى} قال جار الله إنه رجع بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة. وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. وقيل: كان علجًا من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقًا وكان من قوم يعبدون البقر. قالت المعتزلة: الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله: {وأضلهم السامري} وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه فتنت الذهب بالنار وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية. وقالت الأشاعرة: الشبهة في كون الشمس والقمر إلهًا أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديدًا في التكليف، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم. وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى. قال بعضهم: الأسف المغتاظ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه.
ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها: قوله: {ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا} كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول. والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور. وقيل: هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله: {ولا تطغوا فيه} إلى قوله: {ثم اهتدى} وقيل: وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل. ومنها قوله: {أفطال عليكم العهد} أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل. وقيل: أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره. والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف: 142] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى: {وأتممناها بعشر} ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله: {أم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم} قالوا: هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدًا لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية- وهو خلاف الموعد- لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض.
احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله: {فيحل عليكم غضبي} أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل. وقيل: إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضًا على مخالفتهم حذرًا من التفرقة وزيادة الفتنة. ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا {ولكنا حملنا أوزارًا من زينة القوم} أي أثقالًا من حلي القبط كما مر في الأعراف. وقيل: الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي. وقيل: إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك. وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي {فقذفناها} أي في الحفرة، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظارًا لعود موسى، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار {فكذلك ألقى السامري} مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حليًا في يده مثل ما ألقوه. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} {فأخرج لهم عجلًا جسدًا له خوار} قد مر في الأعراف {فقالوا} أي السامري ومن تبعه {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} موسى أن يطلبه هاهنا فذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلهًا بقوله: {أفلا يرون أن لا يرجع} {أن} مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل. وقرئ بالنصب على أنها الناصبة. قال العلماء: ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس، وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل. وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال: اللهم أعطه ما سألك. فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار. وعلى هذا التقدير يكون معجزًا للنبي لا السامري.
ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحًا وإشفاقًا في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال. أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم {يا قوم إنما فتنتم به} قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولًا بأن هذا من جملة الفتن.
ثم دعاهم إلى الحق بقوله: {وإن ربكم الرحمن} ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه لإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال: {فاتبعوني وأطيعوا أمري} وهذا ترتيب في غاية الحسن. واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة. روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه. فسمع الشاب ذلك فولى وقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحدًا. فهبط جبريل وقال: يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقدته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق». قال أهل السنة ههنا: إن الشيعة تمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف. وللشيعة أن يقولوا: إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتذر ب {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} [الأعراف: 15] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولًا من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا. وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب. ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب {لن}، ومن لفظ البراح والعكوف، ومن صيغة اسم الفاعل، ومن تقديم الخبر.
ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن} كقوله: {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] في أن لا هذه مزيدة أم لا؟. وقد مر في الأعراف. وفي هذا الإتباع قولان: فعن ابن عباس ما منعك من إتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم. وقال مقاتل: أراد الإتباع في وصيته كأنه قال: هلا قتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره. قال الأصوليون: في قوله: {أفعصيت أمري} دلالة على أن تارك المأمور به عاصٍ والعاصي يستحق العقاب لقوله: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 22] فيعلم منه أن الأمر للوجوب. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنبًا، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصيًا. وأيضًا قوله: {أفعصيت} بمعنى الإنكار. فإما أن يكون موسى كاذبًا في نسبة العصيان إلى هارون، وإما أن يكون هارون عاصيًا. وأيضًا أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاصٍ وإلا فموسى. وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل البقرة في آدم ما يتعلق بهذه المسألة.
قوله: {ولم ترقب قولي} أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله: {إني خشيت أن تقول فرقت} قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى. ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري، ويمكن أن يكون بعيدًا ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه قال جار الله: الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه. فإذا قيل: لمن يفعل شيئًا ما خطبك؟ فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه {قال} أي السامري {بصرت بما لم يبصروا به} قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به من البصارة. يعني العلم. وقال الآخرون: رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازًا من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف. عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السالم وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة. ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون. وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال: إن لهذا شأنًا فقبض من تربة موطئه. فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد. ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال: إنه عرفه. عن ابن عباس: إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل. فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس. فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه. وقال أبو مسلم: إطلاق الرسول على جبريل في المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب. وأيضًا تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدره على الخوارق. فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعًا من التهكم لأنه كان كافرًا به مكذبًا. وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم فلان يقفو أثر فلان أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئًا من سنتك فطرحتها. فعلى قول العامة يكون قوله: {وكذلك سوّلت لي نفسي} إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيوانًا. وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته. ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة. يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال: لا تقتله فإنه سخيّ. وفي قوله: {لامساس} وجوه: الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحدًا صاح لا مساس. ويقال: إن قومه باقٍ فيهم ذلك إلى الآن الثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته. قال مقاتل: إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له: اخرج أنت وأهلك طريدًا إلى البراري.
اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجورًا فلا يقول: هو لامساس. وإنما يقال له ذلك. وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس. والثالث: قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها. وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله: {وإن لك موعدًا لن تخلفه} قال جار الله: من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفًا. ثم بين مآل حال إلهه فقال: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا} أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفًا {لنحرقنه} من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحمًا ودمًا لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم. قال السدي: أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف. والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيوانًا إلا إذا أريد برد عظامه. ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين. ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال: {إنما إلهكم} أي المستحق للعباد والتعظيم {الله الذي لا إله إلاَّ هو وسع كل شيء علمًا} قد مر مثله في الأنعام قال مقاتل: أي يعلم من يعبده.
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: {كذلك} أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري {نقص عليك من} سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيرًا لمعجزاتك. ثم عظم شأن القرآن بقوله: {وقد آتيناك من لدنا ذكرًا} أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دنيه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم {خالدين فيه} أي في ذلك الوزر أو في احتماله {وساء} فيه ضمير مبهم يفسره {حملًا} والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملًا وزرهم. واللام في {لهم} للبيان كما في {هيت لك} [يوسف: 23] ويجوز أن يكون {ساء} بمعنى قبح ويكون فيه ضمير الوزر. وانتصب {حملًا} على التمييز و{لهم} حال من {حملًا} ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف، اللَّهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر. قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس: وفي الصور قولان: أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله: {فإذا نقر في الناقور} [المدثر: 8] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات.
وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو. يقال: صورة وصور كدرة ودرر. والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر: 68] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق {ونحشر المجرمين} عن ابن عباس: هم الذين اتخذوا مع الله إلهًا آخر. وقال المعتزلة: هم الكفار والعصاة. وفي الزرق وجوه: قال الضحاك ومقاتل: إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون، ومن كلامهم في صفة العدوّ: أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين. وقال الكلبي: {رزقًا} أي عميًا. قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله: {ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] ولقوله: {اقرأ كتابك} [الإسراء: 14] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق. وقيل {زرقًا} أي عطاشا لقوله: {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا} [مريم: 86] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي {يتخافتون} يتسارون {بينهم} من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعبًا، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولاسيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول: قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى لبثنا في الآخرة كعشرة أيام. فقال أعقلهم: بل كاليوم الواحد. وإنما قال: {عشرًا} لأن المراد عشر ليال. وقال مقاتل: أراد عشر ساعات أي بعض يوم. وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم. وقيل: المراد لبثهم في القبور.